سورة المائدة - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمة، وقصة المائدة أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار.
{بسم الله} أي الذي تمت كلماته فصدقت وعوده وعمت مكرماته {الرحمن} الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته {الرحيم} الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته.
لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146]، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأنه شامل العلم، ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب الذي هو عيب، فقال مشيراً إلى أن الناس الذين خوطبوا أو تلك الأهلوا لأول أسنان الإيمان ووصفوا بما هم محتاجون إليه، وتخصيصهم مشير إلى أن من فوقهم من الأسنان عنده من الرسوخ ما يغنيه عن الحمل بالأمر، وذلك أبعث له على التدبر والأمتثال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {أوفوا} أي صدقوا ذلك بأن توفوا {بالعقود} أي العهود الموثقة المحكمة وهي تعم جميع أحكامه سبحانه فيما أحل أو حرم أو ندب على سبيل الفرض أو غيره، التي من جملتها الفرائض التي افتتحها بلفظ الإيصاء الذي هو من أعظم العهود، وتعم سائر ما بين الناس من ذلك، حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى بر، وأما غير ذلك فليس بعقد، بل حل بيد الشرع القوية، تذكيراً بما أشار إليه قوله تعالى في حق أولئك {اذكروا نعمتي وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون} [البقرة: 40] وإخباراً لهم بأنه أحل لهم ما حرم على أولئك، فقال على سبيل التعليل مشيراً إلى أن المقصود من النعمة كونها، لا بقيد فاعل مخصوص، وإلى أن المخاطبين يعلمون أنه لا منعم غيره سبحانه: {أحلت لكم} والإحلال من أجل العقود {بهيمة} وبينها بقوله: {الأنعام} أي أوفوا لأنه أحلّ لكم بشامل علمه وكامل قدرته لطفاً بكم ورحمة لكم ما حرم على من قبلكم من الإبل والبقر والغنم بإحلال أكلها والانتفاع بجلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من شأنها، فاحذروا أن تنقضوا كما نقضوا، فيحرم عليكم ما حرم عليهم، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم، ولا تعترضوا على نبيكم، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا، فإن ربكم لا يسأل عما يفعل، وسيأتي في قوله:
{لا تسئلوا عن أشياء} [المائدة: 101] ما يؤيد هذا.
ولما كانوا ربما فهموا من هذا الإحلال ما ألفوا من الميتات ونحوها قال مستثنياً من نفس البهيمة، وهي في الأصل كل حي لا يميز، مخبراً أن من أعظم العقود ما قدم تحريمه من ذلك في البقرة: {إلا ما يتلى عليكم} أي في بهيمة الأنعام أنه محرم، فإنه لم يحل لكم، ونصب {غير محلي الصيد} على الحال أدل دليل على أن هذا السياق. وإن كان صريحه مذكراً بالنعمة لتشكر- فهو مشار به إلى التهديد إن كُفِرَت، أي أحل لكم ذلك في هذه الحال، فإن تركتموها انتفى الإحلال، وهذه مشيرة إلى تكذيب من حرم من ذلك ما أشير إليه بقوله تعالى في التي قبلها حكاية عن الشيطان {ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} [النساء: 119] من السائبة وما معها مما كانوا اتخذوه ديناً، وفصّلو فيه تفاصيل- كما سيأتي صريحاً في آخر هذه السورة بقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة} [المائدة: 103] الآية، وكذا في آخر الأنعام، وفي الأمر بالوفاء بالعقود بعد الإخبار بأنه بكل شيء عليم غاية التحذير من تعمد الإخلال بشيء من ذلك وإن دق، وفي افتتاح هذه المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة عقب سورة النساء- التي من أعظم مقاصدها النكاح والإرث، المتضمن للموت المشروع فيهما الولائم والمآتم. أتم مناسبة، وقال ابن الزبير: لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم، ومن تنكب عن نهجهم، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذاً وتركاً، وجعل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه في قوله: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم والشهادة سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له» قلت: وهذا الحديث أخرجه البزار عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم» فذكره، وصحح الدارقطني وقفه، ورواه أبو يعلى الموصلي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً والطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام عشرة أسهم، وقد خاب من لا سهم له: شهادة أن لا إله إلا الله سهم وهي الملة، والثانية: الصلاة وهي الفطرة، والثالثة: الزكاة وهي الطهور، والرابعة: الصوم وهي الجنة، والخامسة: الحج وهي الشريعة، والسادسة: الجهاد وهي الغزوة، والسابعة: الأمر بالمعروف وهو الوفاء والثامنة: النهي عن المنكر وهي الحجة، والتاسعة: الجماعة وهي الألفة، والعاشرة: الطاعة وهي العصمة» وفي سنده من ينظر في حاله؛ قال ابن الزبير: وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» أي في الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر وغيره واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» قال ابن الزبير: وقد تحصلت- أي الأسهم الثمانية والدعائم الخمس- فيما مضى، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وأن ذلك ببغيهم وعداوتهم ونتقضهم العهود {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 13] وكان النقض كل مخالفة، قال الله تعالى لعباده المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود، فحذر المؤمنين- انتهى. والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام وما شابهها من حيوان البر، ولكون الصيد مراد الدخول في بهيمة الأنعام استثنى بعض أحواله فقال: {وأنتم حرم} أي أحلت البهيمة مطلقاً إلا ما يتلى عليكم من ميتاتها وغيرها في غير حال الدخول في الإحرام بالحج أو العمرة أو دخول الحرم، وأما في حال الإحرام فلا يحل الصيد أكلاً ولا فعلاً.
ولما كان مدار هذه السنة على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد ألفهم لها والتفاتهم إليها، وعظمت فيها رغباتهم من الميتات وما معها، والأزلام والذبح على النصب، وأخذ الإنسان بجريمة الغير، والفساد في الأرض، والسرقة والخمر والسوائب والبحائر- إلى غير ذلك؛ ذكّر في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم ليلة العقبة حين تواثقوا على الإسلام من السمع والطاعة في المنشط والمكر والعسر واليسر فيما أحبوا وكرهوا، وختم الآية بقوله معللاً: {إن الله} أي ملك الملوك {يحكم ما يريد} أي من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق كالأنعام، وفي حال دون حال كما شابهها من الصيد، فلا يسأل عن تخصيص ولا عن تفضيل ولا غيره، فما فهمتم حكمته فذاك، وما لا فكلوه إليه، وارغبوا في أن يلهمكم حكمته؛ قال الإمام- وهذا هو الذي يقوله أصحابنا-: إن علة حسن التكليف هو الربوبية والعبودية، لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصلحة.


ولما استثنى بعض ما أحل على سبيل الإبهام شرع في بيانه، ولما كان منه ما نهى عن التعرض له لا مطلقاً، بل ما يبلغ محله، بدأ به لكونه في ذلك كالصيد، وقدم على ذلك عموم النهي عن انتهاك معالم الحج المنبه عليه بالإحرام، أو عن كل محرم في كل مكان وزمان، فقال مكرراً لندائهم تنويهاً بشأنهم وتنبيهاً لعزائمهم وتذكيراً لهم بما ألزموه أنفسهم: {يا أيها الذين آمنوا} أي دخلوا في هذا الدين طائعين {لا تحلو شعائر الله} أي معالم حج بيت الملك الأعظم الحرام، أو حدوده في جميع الدين، وشعائر الحج أدخل في ذلك، والاصطياد أولاها.
ولما ذكر ما عممه في الحرم أو مطلقاً، أتبعه ما عممه في الزمان فقال: {ولا الشهر الحرام} أي فإن ذلك لم يزل معاقداً على احترامه في الجاهلية والإسلام، ولعله وحده والمراد الجمع إشارة إلى أن الأشهر الحرم كلها في الحرمة سواء.
ولما ذكر الحرم والأشهر الحرم ذكر ما يهدى للحرم فقال: {ولا الهدي} وخص منه أشرفه فقال: {ولا القلائد} أي صاحب القلائد من الهدي، وعبر بها مبالغة في تحريمه؛ ولما أكد في احترام ما قصد به الحرم من البهائم رقّى الخطاب إلى من قصده من العقلاء، فإنه مماثل لما تقدمه في أن قصد البيت الحرام حامٍ له وزاجر عنه، مع ما زاد به من شرف العقل فقال: {ولا آمين} أي ولا تحلوا التعرض لناس قاصدين {البيت الحرام} لأن من قصد بيت الملك كان محترماً باحترام ما قصده.
ولما كان المراد القصد بالزيارة بقوله: {يبتغون} أي حال كونهم يطلبون على سبيل الاجتهاد {فضلاً من ربهم} أي المحسن إليهم شكراً لإحسانه، بأن يثيبهم على ذلك، لأن ثوابه لا يكون على وجه الاستحقاق الحقيقي أصلاً؛ ولما كان الثواب قد يكون مع السخط قال: {ورضواناً} وهذا ظاهر في المسلم، ويجوز أن يراد به أيضاً الكافر، لأن قصده البيت الحرام على هذا الوجه يرق قلبه فيهيئه للإسلام، وعلى هذا فهي منسوخة.
ولما كان التقدير: فإن لم يكونوا كذلك. أي في أصل القصد ولا في وصفه- فهم حل لكم وإن لم تكونوا أنتم حرماً، والصيد حلال لكم، عطف عليه التصريح بما أفهمه التقييد فيما سبق بالإحرام فقال: {وإذا حللتم} أي من الإحرام بقضاء المناسك والإحصار {فاصطادوا} وترك الشهر الحرام إذ كان الحرام فيه حراماً في غيره، وإنما صرح به تنويهاً بقدره وتعظيماً لحرمته، ثم أكد تحريم قاصد المسجد الحرام وإن كان كافراً، وإن كان على سبيل المجازاة بقوله: {ولا يجرمنكم} أي يحملنكم {شنئان قوم} أي شدة بغضهم.
ولما ذكر البغض أتبعه سببه فقال: {إن} على سبيل الاشتراط الذي يفهم تعبير الحكم به أنه سيقع، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والتقدير في قراءة الباقين بالفتح: لأجل أن {صدوكم} أي في عام الحديبية أو غيره {عن المسجد الحرام} أي على {أن تعتدوا} أي يشتد عدوكم عليهم بأن تصدوهم عنه أو بغير ذلك، فإن المسلم من لم يزده تعدي عدوه فيه حدود الشرع إلا وقوفاً عند حدوده، وهذا قبل نزول {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام} [التوبة: 28] سنة تسع.
ولما نهاهم عن ذلك، وكان الانتهاء عن الحظوظ شديداً على النفوس، وكان لذلك لا بد في الغالب من منتهٍ وآبٍ، أمر بالتعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: {وتعاونوا على البر} وهو ما اتسع وطاب من حلال الخير {والتقوى} وهي كل ما يحمل على الخوف من الله، فإنه الحامل على البر، فإن كان منكم من اعتدى فتعاونوا على رده، وإلا فازدادوا بالمعاونة خيراً.
ولما كان المعين على الخير قد يعين على الشر قال تنبيهاً على الملازمة في المعاونة على الخير، ناهياً أن يغضب الإنسان لغضب أحد من صديق أو قريب إلا إذا كان الغضب له داعياً إلى بر وتقوى: {ولا تعانوا على الإثم} أي الذنب الذي يستلزم الضيق {والعدوان} أي المبالغة في مجاوزة الحدود والانتقام والتشفي وغير ذلك وكرر الأمر بالتقوى إشارة إلى أنها الحاملة على كل خير فقال: {واتقوا} أي الذي له صفات الكمال لذاته فلا تتعدوا شيئاً من حدوده؛ ولما كان كف النفس عن الانتقام وزجرها عن شفاء داء الغيظ وتبريد غلة الاحن في غاية العسر، ختم الآية بقوله: {إن الله} أي الملك الأعظم {شديد العقاب}.


ولما أتم الكلام على احترام أعظم المكان وأكرم الزمان وما لابسهما، فهذب النفوس بالنهي عن حظوظها، وأمر بعد تخليتها عن كل شر بتحليتها بكل خير عدّد على سبيل الاستئناف ما وعد بتلاوته عليهم مما حرم مطلقاً إلا في حال الضرورة فقا: {حرمت} بانياً الفعل للمفعول لأن الخطاب لمن يعلم أنه لا محرم إلا الله، وإشعاراًَ بأن هذه الأشياء لشدة قذارتها كأنها محرمة بنفسها {عليكم الميتة} وهي ما فقد الروح بغير ذكاة شرعية، فإن دم كل ما مات حتف أنفه يحبس في عروقه ويتعفن ويفسد، فيضر أكله البدن بهذا الضرر الظاهر، والدين بما يعلمه أهل البصائر {والدم} أي المسفوح، وهو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق {ولحم الخنزير} خصة بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارة أكله كالدين {وما أهل} ولما كان القصد في هذه السورة إلى حفظ محكم العهود المذكر بجلاله الباهر، قدم المفعول له فقال: {لغير الله} أي الملك الأعلى {به} أي ذبح على اسم غيره من صنم أو غيره على وجه التقرب عبادة لذلك الشيء، والإهلاك: رفع الصوت.
ولما كان من الميتات ما لا تعافه النفوس عيافتها لغيره، نص عليه فقال: {والمنخنقة} أي بحبل ونحوه، سواء خنقها أو لا {والموقوذة} أي المضروبة بمثقل، من: وقذه- إذا ضربه {والمتردية} أي الساقطة من عال، المضطربة غالباً في سقوطها {والنطيحة} أي التي نطحها فماتت {وما أكل السبع} أي كالذئب والنسر ونحوهما.
ولما كان كل واحدة من هذه قد تدرك حية فتذكى، استثنى فقال: {إلا ما ذكيتم} أي من ذلك كله بأن أدركتموه وفيه حياة مستقرة، بأن اشتد اضطرابه وانفجر منه الدم؛ ولما حرم الميتات وعد في جملتها ما ذكر عليه اسم غير الله عبادة، ذكر ما ذبح على الحجارة التي كانوا ينصبونها للذبح عندها تديناً وإن لم يذكر اسم شيء عليها فقال: {ما ذبح على النصب} وهو واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة تنصب، فيهل عليها ويذبح عندها تقرباً إليها وتعظيماً لها {وأن تستقسموا} أي تطلبوا على ما قسم لكم {بالأزلام} أي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها بوزن قلم وعمر وكانت ثلاثة، على واحد: أمرني ربي، وعلى آخر: نهاني ربي، والآخر غفل، فإن خرج الآمر فعل، أو الناهي ترك، أو الغفل أجيلت ثانية، فهو دخول في علم الغيب وافتراء على الله بادعاء أمره ونهيه، وإن أراد المنسوب إلى الصنم فهو الكفر الصريح وقال صاحب كتاب الزينة: يقال: إنه كانت عندهم سبعة قداح مستوية من شوحط، وكانت بيد السادن، مكتوب عليها نعم، لا، منكم، من غيركم، ملصق العقل، فضل العقل، فكانوا إذا اختلفوا في نسب الرجل جاؤوا إلى السادن بمائة درهم، ثم قالوا للصنم: يا إلهنا! قد تمارينا في نسب فلان، فأخرج علينا الحق فيه، فتجال القداح فإن خرج القدح الذي عليه منكم كان أوسطهم نسباً، وإن خرج الذي عليه من غيركم كان حليفاً وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ولا حلف، وإذا أرادوا سفراً أو حاجة جاؤوا بمائة فقالوا: يا إلهنا! أردنا كذا، فإن خرج نعم فعلوا، وإن خرج لا لم يفعلوا، وإن جنى أحدهم جناية، فاختلفوا فيمن يحمل العقل جاؤوا بمائة فقالوا: يا إلهنا! فلان جنى عليه، أخرج الحق، فإن خرج القدح الذي عليه العقل لزم من ضرب عليه وبرئ الآخرون، وإن خرج غيره كان على الآخرين العقل، وكانوا إذا عقلوا العقل ففضل الشيء منه تداروا فيمن يحمله، فضربوا عليه؛ فإن خرج القدح الذي عليه فضل العقل للذي ضرب عليه لزمه، وإلا كان على الآخرين الذين لم يضرب عليهم فهذا الاستقسام الذي حرمه الله لأنه يكون عند الأصنام ويطلبون ذلك منها، ويظنون أن الذي أخرج لهم ذلك هو الصنم، وأما إجالة السهام لا على هذا الوجه فهو جائز، هو وتساهم واقتراع لا استقسام وقال أبو عبيدة: واحد الأزلام زلم- بفتح الزاء، وقال بعضهم بالضم وهو القدح لا ريش له ولا نصل، فإذا كان مريَّشاً فهو السهم- والله أعلم؛ ويجوز أن يراد مع هذا ما كانوا يفعلونه في الميسر- على ما مضى في البقرة، فإنه طلب معرفة ما قسم من الجزور، ويلتحق بالأول كل كهانة وتنجيم، وكل طيرة يتطيرها الناس الآن من التشاؤم ببعض الأيام وبعض الأماكن والأحوال، فإياك أن تعرج على شيء من الطيرة، فتكون على شعبة جاهلية، ثم إياك!.
ولما كانت هذه الأشياء شديدة الخبث أشار إلى تعظيم النهي عنها بأداة البعد وميم الجمع فقال: {ذلكم} أي الذي ذكرت لكم تحريمه {فسق} أي فعله خروج من الدين.
ولما كانت هذه المنهيات معظم دين أهل الجاهلية، وكان سبحانه قد نهاهم قبلها عن إحلال شعائر الله والشهر الحرام وقاصدي المسجد الحرام بعد أن كان أباح لهم ذلك في بعض الأحوال والأوقات بقوله: {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم- ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} [البقرة: 191] {الشهر الحرام بالشهر الحرام} [البقرة: 194] {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} [البقرة: 191] علم أن الأمر بالكف عن انتهاز الفرص إنما هو للأمن من الفوت، وذلك لا يكون إلا من تمام القدرة، وهو لا يكون إلا بعد كمال الدين وإظهاره على كل دين- كما حصل به الوعد الصادق، وكذا الانتهاء عن جميع هذه المحارم إنما يكون لمن رسخ في الدين قدمه، وتمكنت فيه عزائمه وهممه، فلا التفات له إلى غيره ولا همه إلى سواه، ولا مطمع لمخالفه فيه، فعقب سبحانه النهي عن هذه المناهي كلها بقوله على سبيل النتيجة والتعليل: {اليوم} أي وقت نزول هذه الآية {يئس الذين كفروا} أي لابسوا الكفر سواء كانوا راسخين فهي أو لا {من دينكم} أي لم يبق لكم ولا لأحد منكم عذر في شيء من إظهار الموافقة لهم أو التستر من أحد منهم، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كاتبهم ليحمي بذلك ذوي رحمه، لأن الله تعالى قد كثركم بعد القلة، وأعزكم بعد الذلة، وأحيى بكم منار الشرع، وطمس معالم شرع الجهل، وهدّ منار الضلال، فأنا أخبركم- وأنتم عالمون بسعة علمي- أن الكفار قد اضمحلت قواهم، وماتت هممهم، وذلت نخوتهم، وضعفت عزائمهم، فانقطع رجاؤهم عن أن يغلبوكم أو يستميلوكم إلى دينهم بنوع استمالة، فإنهم رأوا دينكم قد قامت منائره، وعلت في المجامع منابره، وضرب محرابه، وبرّك بقواعده وأركانه، ولهذا سبب عما مضى قوله: {فلا تخشوهم} أي أصلاً {واخشون} أي وامحضوا الخشية لي وحدي، فإن دينكم قد أكمل بدره، وجل عن المحلق محله وقدره، ورضي به الآمر، ومكنه على رغم أنف الأعداء.
وهو قادر على ذلك، وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل: {اليوم أكملت لكم دينكم} أي الذي أرسلت إليكم به أكمل خلقي لتدينوا به وتدانوا، وإكماله بإنزال كل ما يحتاج إليه من أصل وفرع، نصاً على البعض، وبياناً لطريق القياس في الباقي، وذلك بيان لجميع الأحكام، وأما قبل ذلك اليوم فهو وإن كان كاملاً لكنه بغير هذا المعنى، بل إلى حين ثم يزيد فيه سبحانه ما يشاء، فيكون به كاملاً أيضاً وأكمل مما مضى، وهكذا إلى هذه النهاية، وكان هذا هو المراد من قوله: {وأتممت عليكم نعمتي} أي التي قسمتها في القدم من هذا الدين على لسان هذا الرسول، بأن جمعت عليه كلمة العرب الذين قضيت في القدم بإظهارهم على من ناواهم من جميع أهل الملل، ليظهر بهم الدين، وتنكسر شوكة المفسدين من غير حاجة في ذلك إلى غيرهم وإن كانوا بالنسبة إلى المخالفين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود {ورضيت لكم الإسلام} أي الذي هو الشهادة لله بما شهد به لنفسه من الوحدانية التي لمن يتبع الإذعان لها الإذعان لكل طاعة {ديناً} تتجازون به فيما بينكم ويجازيكم به ربكم؛ روى البخاري في المغازي وغيره، ومسلم في آخر الكتاب، والترمذي في التفسير، والنسائي في الحج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم} فقال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة، وفي التفسير من البخاري عن طارق بن شهاب قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت، وقال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذلك اليوم خمسة أعياد: جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده، قلت: ويوم الجمعة هو اليوم الذي أتم الله فيه خلق هذه الموجودات بخلق آدم عليه السلام بعد عصره، وهو حين نزول هذه الآية إن شاء الله تعالى، فكانت تلك الساعة من ذلك اليوم تماماً ابتداء، وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فإذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، قال: صدقت!» فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً وقد روي أنه كان هجيري النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة من العصر إلى الغروب شهد الله أنه لا إله إلا هو- الآية، وكأن ذلك كان جواباً منه صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، لفهمه صلى الله عليه وسلم أن إنزال آية سر الإسلام وأعظمه وأكمله، وهذه الآية من المعجزات، لأنها إخبار بمغيب صدقها فيه الواقع.
ولما تمت هذه الجمل الاعتراضية التي صار ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها بأحكام الرصف واتقان الربط من الامتزاج أشد مما بين الروح والجسد، المشيرة إلى أن هذه المحرمات هي التي تحقق بها أهل الكفر كمال المخالفة، فأيسوا معها من المواصلة والمؤالفة؛ رجع إلى تتمات لتلك المحظورات، فقال مسبباً عن الرضى بالإسلام الذي هو الحنيفة السمحة المحرمة لهذه الخبائث لإضرارها بالبدن والدين: {فمن اضطر} أي ألجئ إلجاء عظيماً- من أي شيء كان- إلى تناول شيء مما مضى أنه حرم، بحيث لا يمكنه معه الكف عنه {في مخمصة} أي مجاعة عظيمة {غير متجانف} أي متعمد ميلاً {لإثم} أي بالأكل على غير سد الرمق، أو بالبغي على مضطر آخر بنوع مكر أو العدو عليه بضرب قهر، وزاد بعد هذا التقييد تخويفاً بقوله: {فإن الله} أي الذي له الكمال كله {غفور رحيم} أي يمحو عنه إثم ارتكابه للمنهي ولا يعاقبه عليه ولا يعاتبه ويكرمه، بأن يوسع عليه من فضله، ولا يضطره مرة أخرى- إلى غير ذلك من الإكرام وضروب الأنعام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8